ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ
فلا تشتغل إلا بما يكسب العلا ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي
وعلى
هذا: فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافًا واضحًا،
يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والإغراء والتحذير، والنعم
والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم:-
الصنف الأول من الناس:
من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان:
فلا تضره فتنة ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة ،صامد كالطود الشامخ،
فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسرًا وعسرًا، ثم عمل موازنة، فوجد
أن الدهر يومان؛ ذا أمن وذا خطر، والعيش عيشان؛ ذا صفو وذا كدر، فضبط نفسه
في الحاليْن؛ فلم يأسَ على ما فات، ولم يفرح بما هو آتٍ؛ فلا خُيَلاء عند
غنى، ولا حزن عند افتقار، لا يبطر إن رَئِس، ولا يتكدر إن رُئِس، يقلق من
الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبدًا، يستعجل الباقية على الفانية؛ فتجده
راضي النفس، مطمئن الفؤاد، إن هذا الصنف من الناس صنف قيِّم كريم، لكنه
قليل قليل، وما ضره أنه قليل وهو عزيز؛ والسر إنه الإيمان، الذي إذا خالطت
بشاشته القلوب ثبت صاحبه، واطمأن وضرب بجذوره فلا تزعزعه المِحَن، ولا تؤثر
فيه الفتن؛ بل يُكِنُّ الخير ويجني الفوائد .
وهذه سمة المؤمنين، الاطمئنان إلى الله يملأ نفوسهم
فيبنيها، يحرك جوارحهم فيقوِّيها. لا يستمدون تصوراتهم وقِيَمَهم وموازينهم
من الناس، وإنما يستمدونها من رب الناس؛ فأنى يجدوا في أنفسهم وهنًا عند
محنة أو عند منحة أو عند شهوة، أو يجدوا في قلوبهم حزنًا على فائت من
الدنيا؟!إنهم على الحق؛ فماذا بعد الحق إلاّ الضلال، ليكن للباطل سلطانه، ليكن معه جمعه وجنوده، إن هذا لا يغير من الخطب شيئًا.هذا هو الصنف الأول من الناس ممن أسَّسَ بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ هامات لا تنحني، وقامات لا تنثني، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الصنف .أما الصنف الثاني: فأسَّس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ:
يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على
وجهه خسر الدنيا والآخرة، يذوب أمام المحنة فلا يتماسك، يلعب بعواطفه الخبر
البسيط فلا يثبت، يطير فؤاده للنبأ الخفيف فلا يسكن، فؤاده هواه، يعيش
موزعًا بين همِّ حياة حاضر ومفاجآت تنتظر، لا تطمئن لقوله، ولا تثق في
تصرفاته، بصره زائغ، عقله فارغ، أفكاره تائهة، مغلوب على أمره، لا ينفع في
ريادة ولا يُعتمَد عليه في ساقة، جبان مفتون فرَّار غرَّار .
[center]يوم يمانٍ إذا لاقاه ذو يمنٍ وإن تلقَّ معديًّا فعدنان