فنان كردي عراقي يحول زنزانته إلى معرض فني بفرشاة الأمل وألوان المستقبل الزاهر التي تجسد الحرية، استطاع
فنان تشكيلي كردي من تحويل زنزانته في إحدى معتقلات البعث آنذاك إلى معرض
فني للأعمال التشكيلية. DW العربية زارت المعرض
"الفن والبلد"، عنوان معرض فني أقامه الفنان بيشكو عباس، قد يبدو للوهلة
الأولى خبراً عن واحد من الكثير من المعارض الفنية في العراق. لكن مكان
إقامة المعرض يوضح ارتباط الفنان بهذا المكان، رابطة حبلى بالألم
والمعاناة، إذ أقام عباس معرضه في المعتقل السابق"الأمن الأحمر" الذي يعود
لحقبة نظام البعث ويقع وسط محافظة السليمانية شمالي العراق. بيشكو عباس
كان أحد الذين احتجزوا فيه لبضع سنوات. المعرض استمر ليومين وعُرضت فيه نحو
16 لوحة زيتية وخمسة أعمال نحتية من مادة (الريزنه). حاول الفنان ألا
يغادر في أعماله أجواء المكان وما يثيره من ذكريات خلال الحقبة الماضية، إذ
عبر من خلالها عن معاناة الشعب الكردي خلال حقبة البعث من حيث التهميش
والإقصاء، فيما رمزت أبرز زوايا المعرض إلى تطلعات هذا الشعب إلى عصر مشرق
في العراق الجديد.
إزالة عتمة الماضي بالألوان الفاتحة وقف الفنان المغترب بيشكو عباس وسط القاعة، وبدت على وجهه سعادة وهو يرى
إقبال الزوار على معرضه خلال حفل الافتتاح. عن الهدف من إقامة معرضه يقول
عباس: "إزالة الظلام والعتمة من ذاكرتي التي كنت أعيشها داخل هذه الزنزانة،
من خلال تلوين لوحاتي بالألوان الفاتحة لكسر حاجز الظلام". و يضيف عباس في
حوار مع DW العربية: "لوحاتي عبرت عن قضايا معاصرة وتناولت هموم المواطن
الكردي والجرائم التي ارتكبت بحقه في عهد النظام السابق. أريد تجسيد رموز
التضحية والحب في أعمالي".
ويعتبر هذا المعرض هو السادس الذي ينظمه الفنان داخل العراق، فضلاً عن
أقامته لنحو 20معرضاً في بلدان مختلفة كسوريا وإيران وهولندا والتي عبرت من
خلال أعمالها عن معاناة الشعب الكردي والمجازر التي ارتكبت بحق أبناء
قوميته خلال تلك الحقبة.
صبرية رسول معلمة كردية زارت المعرض
"جئت إلى المعرض لكي استمتع بمشاهدة ما جالت به ريشة هذا الفنان في
التعبير عن قضيته ومأساته المؤلمة خلال فترة اعتقاله داخل هذه الزنزانة
التي حولها اليوم إلى مقصداً لمحبي الفن"،هذا ما قالته صبرية رسول
(52عاماً)، معلمة الرسم في إحدى المدارس الابتدائية بمحافظة السليمانية.
الانتصار على ذاكرة المكان وبينما تنشغل المعلمة بمتابعة ما احتواه المعرض من لوحات زيتيه وأعمال
فنية تجول في خاطرها ذكريات مؤلمة من حياة المعتقلين داخل هذا السجن بحكم
سكنها القريب من المعتقل المذكور، وتبين قائلة إن "الفنان استطاع من خلال
أعماله الفنية أن يحول هذا المكان المرعب في أزمان مضت، إلى واحة للحرية
والسلام تتراقص بين جدرانها الألوان الزاهية".
أما عبد الرحمن ادم عبد الله (60 عاماً) الذي قصد المعرض في اليوم الثاني
من افتتاحه بعد أن سمع عنه عن طريق وسائل الإعلام فيذكر بان "فكرة المعرض
جميلة جداً خصوصاً وان الفنان استطاع بإبداعه توظيف مكان اعتقاله ومعاناته
موضوعية للوحاته الفنية التي زينت أروقة المكان".
و يضيف عبدالرحمن عبد الله في حوار مع DWالعربية والذي أبدى إعجابه
بالمعرض: "لقد أتحفنا المعرض بلوحاته وأعماله الفنية التشكيلية التي عبرت
عن روح التواصل والتجدد بين الإنسانية رغم القسوة والاضطهاد". منوهاً:
"بضرورة إقامة مثل هذه المعارض وغيرها من الأنشطة الثقافية التي تعرف
الأجيال الجديدة على وحشية النظام البائد"، على حد تعبيره. وكانت لوحة
بعنوان "رقصة باليه الألوان"، من ابرز اللوحات التي نالت إعجاب زائري
المعرض.
الخروج عن المألوف؟ ممرات السجن تتحول إلى قاعة لعرض اللوحات الفنية
من جهته أبدى الناقد التشكيلي هاوري عزيز محمد والذي يتابع نتاجات بيشكو
عباس أول بأول، إعجابه الكبير بالمعرض والذي يرى بان: "المعرض يعد بمثابة
متغير للفنان على اعتبار أنه خرج عن المألوف من خلال الألوان الهادئة التي
استخدمها في لوحاته لكي يمحي عتمة ذاكرته في المعتقل".
ويقول محمد في حوار مع DW العربية: إنه "من الواضح جداً أن بيشكو عباس قد
استخدم أفكاراً كدلالات رمزية تعبيرية تتراقص بها الألوان الزاهية لكي تلف
المكان بلمسات بريئة"، على حد تعبيره.
وولد الفنان التشكيلي الكردي بيشكو عباس في مدينة السليمانية عام 1966،
وأكمل دراسته الجامعية في كلية الفنون الجميلة في جامعة السليمانية بقسم
النحت عام 1988 وبسبب انضمام والده لقوات "البيشمركه" ومحاربة نظام البعث
كانت عائلته في مرصد قوات الأمن والبعث حتى تم اعتقال وتهجير بعض أفراد
عائلته. وعلى إثر تنظيمه لأحدى المعارض التشكيلية التي خلدت ضحايا مجزرة
"حلبجة"، تم اعتقال الفنان التشكيلي في معتقل"الأمن الأحمر" نهاية عام
1988.
وللفنان أعمال عديدة أبرزها تمثال "حلبجة" في مدينة لاهاي الهولندية الذي
تم افتتاحه عام 2011 فضلاً عن تصميمه لتمثال الأنفال في محافظة السليمانية.
ويرأس عباس جمعية للفنانين التشكيلين في مدينة لاهاي تعرف باسم"الفن
والبلد".
ويعتبر "الأمن الأحمر" أحد ابرز "القلاع" التي شيدها نظام البعث في قلب
محافظة السليمانية عام 1979 لفرض سيطرته التامة على المدينة من خلال زرع
الرعب والخوف بين الأهالي، ويتكون المبنى الذي تم الاستيلاء عليه في آذار/
مارس عام 1991 من أربعة طوابق على مساحة تقدر بنحو 3 ألاف متر مربع مقسمه
على شكل زنزانات التعذيب ودهاليز السجن الانفرادي في تلك القلعة المخيفة
الشهيرة بدائرة "الأمن الأحمر"نسبة إلى الطلاء الأحمر الذي اصطبغ به
مبناها.
مناف الساعدي ـ السليمانية