أحاديث في الأدب الشعبيالبعد ما ينحي الفتى عن صحيبه ...والقرب ما ينفعك في الصاحب اللاشمصدر الصورة إبرهيم الحربي منتدى مكشات
عبد الرحيم الأحمدي
لهذا القول قصة ، فقد قدم إلى سوق وادي
الفرع رجل من البادية وقصد رجلاً من أهل هذا الوادي يدعى مريع بن حسن
العبيدي، وهو من الرجال الموسرين الذين يلجأ إليهم أصحاب الحاجات
للاستدانة، و أرجح أن يكون صاحب دكان يمتار منه البادية أشياءهم من حبوب و
تمر و أقمشة و بن و نحو ذلك، ثم دفع الرجل إلى العبيدي بخاتم معه رهناً
ليوم السداد، ويبدو أن بين الرجلين معرفة قد لاتصل إلى درجة الصداقة، ولكن
الناس في ذلك الزمان الذي يبعد عن زماننا مايقارب المائة عام أو يزيد كانوا
يقدرون الظروف ويثقون في الرجال من ذوي العزيمة و الاقدام لذا أخذ العبيدي
يتأمل الخاتم و يقول:
الخاتم المنقوش انا وش أبي به
اما انكسر والا تضيَّع عليه
و اللي يصوّت في الخلا من يجيبه
و اللي معلَّق في السما كيف يناش
كلمات بسيطة سمعناها تردد في أغاني الخبت منذ زمن بعيد، ولا أظن أنها
تحتاج إلى شرح ، فشعر أهل القرى يتسم بالبساطة و الوضوح، فما كان من البدوي
وهو من عتيبة إلا أن أجاب بقوله:
اللي يسوِّي الطيبة من نصيبه
يلقى بها قدمه معاميل وفراش
و البعد ما ينحي الفتى عن صحيبه
و القرب ما ينفعك في الصاحب اللاش
وقبل العبيدي الرهن، و جادت أيام الربيع وسدد الرجل دينه و استعاد خاتمه
إن كان احتفظ به العبيدي رهنا، والقيمة ليست في ثمن الخاتم ولكن في الجانب
المعنوي.
هذا ما رواه الكاتب محمد بن صالح البليهشي في كتابه:» وادي الفرع تاريخ و
حضارة» و البليهشي من اهل وادي الفرع أديب و مؤرخ و تربوي و إعلامي أمضى
سبعة وعشرين عاما عضوا في مجلس إدارة النادي الأدبي بالمدينة المنورة وله
عديد من المؤلفات في حقول الأدب و المعرفة. أما وادي الفرع فهو أحد الأودية
المعروفة بمنطقة المدينة المنورة له تأريخ عريق و حضارة كتب عنها الرحالة و
المؤلفون، وكان هذا الوادي من أغزر الأودية عيونا و أحفاها بالثقافة و
التعليم، بل كان مركزاً حضاريا مازالت قراه شاهدة بمعالم حضارته حتى اليوم،
وكان يرفد المدينة المنورة بالرطب و التمر و الحبوب و العسل و الخضروات ،
وقد استشهد المؤلف على عراقة تأريخ هذا الوادي بكثير من الوثائق ذات
الدلالة على تقدم الوادي العلمي و الثقافي، وغابت الصور و الخرائط عن
المؤلف مكتفيا بأدبيات الوثائق و الأشعار و المصطلحات التي تعزز ما أشرنا
إليه عن التميز العلمي والثقافي و الحضاري الذي كان عليه الوادي في زمن لم
تكن بعض المدن في الجزيرة العربية تتمتع بهذه الملامح الهامة.والكتاب جدير
بالقراءة و الاقتناء لمحتواه القيم الذي أبدعه قلم مدرك لما يتطلع إليه
القارئ و الدارس في زمن التقدم العلمي و تعدد الدراسات. ولقد أورد المؤلف
بعض النصوص الشعرية مدار أحاديثنا في الادب الشعبي منها ماهو اعتزاز
بالوادي :
وادي الفرع ماهو على زلافي
وادي شريف ولاعليه خلافِ
دونه رجال يحتمون القافي
ومحصنينه بالقلع و السور
ويحتمون القافي منها ما يعني المواقف و الأقوال التي تصدر عنهم وما
يترتب عليها من قول أو فعل ومازال القلع و السور معالم تشهد على ماضي
الوادي و حضارته.
ومنها ماهو اشتياق للوادي:
وادي الفرع يا عرب ماانساه
لوكان طالت بي المدة
ولي خل يا اهل الهوى ما اسلاه
لازم أوافيه بالرِّدَّة
ومنها ماهو تحسر على من غادر الوادي:
عذب اللمى سنَّد الوادي
وكَبْ وادي الفرع مرباه
وراه صَيَّاح و منادي
لا وا وجودي على لاماه
ومنها ماهو غزل:
ياحامداليوم شفت اللي تعدَّى بين خيفين
مابين خيف الغَربْ وطليْس والكرسي عضيَّه
الباشة اللي نياشينه من اسطنبول بالفين
تزهاه لا ما لبسها في الليالي اللي قسيَّة
الى قوله بعد وصف خط سيره بين القرى النضرة:
وحلفت باللي ذكر سبح وطه ثم الاسمين
ما اكب وادي الفرع مرباى مدة لى سنيّه
وعن جودة نخل وادي الفرع يقول أحد شعرائه:
أنا لقيت الودايا في كتانه مالها امثال
الغرسة الوحَّدة تسوى من الخِزْلة ثلاثين
إن كانها طلق يا»هْدَيْهِدْ» أبى ارخص غالي المال
وان كانها وقف ما ابغاها ولا للوقف تثمين
يمتدح نخل خيف كتانة بأن النخلة بل الوديَّة الواحدة وهي التي لايتجاوز
ارتفاعها مترين فما دون تقريباً هذه الودية تساوي قرية الخزلة بأكملها، وهو
يسأل صديقه هْدَيْهِدْ عن وضع الودية إن كانت مطلقة أم مقيَّدة بوقف،
ولاشك في استخدام الرمزية لدى الشاعر والتشبيه بأجمل و أثمن ما تعارف على
تميزه الناس.
وآخر من شعراء الوادي لا يستخدم الترميز بل يذهب مباشرة إلى إطلاق مشاعره:
أنا تهيَّضت و اللي هاضني مدعوج الاعيان
يم القبالة طلوع سهيل لاحن و اعجبنِّي
يا»ناصر» الناس فيهم فن وايضا فيهم افنان
عجيب ياشفت لي مخلوق موفي كل قنِّ
والقبالة هي القِبلة ، والقن هو القانون ويعني هنا أعلى درجات الذوق وهو
ما يتمتع به المخلوق الذي يتغزل فيه الشاعر. والنسيان الذي يربك الواله
تعبير عن مدى التأثير الذي يتركه الجمال في الإنسان المفاجأ برؤية جميل،
وقد جلاه لنا شاعر الوادي في الأبيات التالية:
عدَّيت في المرقب اللي يعسر الراقي لمرقاه
عدَّيته القايلة ما ادري ضحى نسيت ما ادري
لقيت خوطين خوط بعيثران وخوط حناه
نشدت عنه الأمير ايَّات اخَيْر و قال ما ادري
ولدَّيت في الوادي اللي حايفة حوله قراياه
الوادي اللي حيا ما ادري سنا نسيت ما ادري
واعجبني الماطر اللي مشتعل و الثعل يبراه
قالوا شِرِبْ ما شِرِبْ قالوا شرب نسيت ما ادري
إنه يواجه غصنين أحدهما بعيثران و الآخر حناء و كلاهما طيبي الرائحة ومن
نبت وغرس الوادي و حيرة الشاعر يشاركه وقعها الأمير الذي يحمي الغصنين ،
وبلغ الارتباك من الشاعر ماجعله لا يميز أمر الوادي المحاط بالقرى الخضراء،
إن كان خصبا أو محلاً، ولقد بهر الشاعر بذلك الجمال الذي جعله يعجز عن
التعبير ، فعبر بما هو اجمل .
و المحرومون إلا من الأماني يقول الأول منهم:
ياليت ليَّه ثمان مِيَه من الجمَّيز و الجوخ
و مْيَهْ من السدر و ميَهْ منك يا خيف الفقِيرِ
وميه من الخِزْلَه اللي كافلة في سد شُمْروخ
ولياان ليّه على اهل السوق شهري و ميري
و مْيَه من كتانة اللي لاطوال وكلها دوخ
ولياانها مقبلة ويقودها سلك الحرير
هذه المئات كلها من النخل و اختارها من اغزر الخيوف عيونا وهي: الجميز و
الجوخ و السدر و الفقير و الخزلة و كتانة، و شمروخ جبل يحتضن خيف الخزلة.
أما الشاعر الثاني فيقول :
ياليتني مالكاً في كل قرية لي نخلتين
مشوَّكَة وحَّدة و الثانية منهن عرِيَّة
وليا انها في حجا القانون ما تحرف لها العين
وليا انها ما تعاوز لاوبار ولا سقيَّة
وليا ان بالطول ماشي طولها غير العناقين
وليا اشتهيت الجنا مالت قنيَّتْها عليَّه
وليا اطلعت بالثمر تطلع على خمسين و اثنين
والقنو فردة معابير الصغار من القنية
هذا شاعر كسول يذكرنا بالذي يقول:
دعوت الله يجمعني بليلى
فهو يمتدح في البيت الأول جودة نخل الوادي ، ونخلتان تلبيان حاجته في
الجنا مثل العرية وهي النخلة التي يؤكل ثمرها رطباً ولا تصلح للكنز و الحفظ
تمراً مثل المشوكة وهي من النخل الذي يترك ليصبح تمراً ثم يحفظ للاستخدام
في الشتاء. أما أمنياته لهذا النخل فهو القرب من مجرى الماء إلى مزارع
القرية ليستفيد من المجرى في الري من مرور الماء إلى المزارع الأخرى ، فلا
يتعب في الري ولا يدفع مالاً عند انحسار الماء من المزارع البعيدة عن
المجرى ، وهذا الموقع لكثرة نخله وازدحامه لا يتطلب عناية التلقيح و
التوبير ولا من يحرف الماء إليه ليسقيه. وارتفاع النخلة يحميها من العبث
ويصلح ثمرها، وطالما أنها تميل عند الجنا فلا يعنيه الطول، والعناقين جبل
يزيد ارتفاعه عن ألفي متر ويبعد عن الوادي كثيراً، ولاشك في أن هذا الشعر
من المداعبات و المبالغات التي لا تبلغها الأماني ولكنه من ألوان الشعر
المعروفة في الأدب العربي، ولايمكن أن نتهم الشاعر بعدم الخبرة النخلية حين
يحدد قنوان النخلة التي يتطلع إليها باثنين وخمسين عذقا أو قنواً أو من
القنوان. هذا الحديث ليس إلا عن اقل الجوانب ذكراً من الشاعر وهو الشعر،
والكتاب يقارب الأربعمائة صفحة ١٧X٢٤ ، مرجع ثقافي هام ليس عن وادي الفرع و
إنما عن أمثاله من أودية الحجاز في منطقة المدينة المنورة.